من دماغي

أسامة الشاذلي كتب: الندم ذلك الوحش المخيف الذي يبدو جميلاً في السينما فقط

الندم
الندم


نُشِر هذا المقال يوم 12 إبريل 2020م على موقع الميزان

الندم تلك الكلمة التي يكره معظمنا ترديدها والشعور بها، ويحاول بعض الناس الادّعاء بأنهم لا يشعرون به أبدًا، بينما لا ينسى الجميع تلك المرارة التي يتركها في حلوقنا وأرواحنا، ويجعلنا نتمنى عودة الزمن من أجل تغيير القرار حتى لا يصيبنا الندم.
ذلك الوحش الغامض الرابض خلف كل قرار، والذي تسببه الديمنتورات التي تحرس أزكابان في روايات وأفلام هاري بوتر، التي تتغذى على العواطف الإيجابية.
الندم الذي ليس له نوع واحد بل عدّة أنواع:

(1)
عن الموافقة بالخروج من السجن التي منحها أحمد مظهر (مأمور السجن) للسجين (المحامي المظلوم) فريد شوقي مقابل كلمة شرف بالعودة في فيلم “كلمة شرف”.
ذلك القرار الذي نرضخ له يومًا مقابل راحة ضميرنا، القرار الذي يشعرنا بالراحة لحظة إعلانه، ثم كل تلك الآلام التي نعانيها بعده.
اللحظات الطويلة التي بقيت فيها عينا مأمور السجن معلقة بعقارب الساعة على أمل الْتزام سجينه المشهور بكثرة محاولات الهرب بكلمته، القلق الذي يقتلنا خوفاً من نتيجة القرار الذي أراح ضميرنا، والذي قد يوسوس لنا بالندم رغم صحة القرار.
القرار الذي يعتمد على آخر، والذي عادة ما يخذلنا، يبقى قرارًا صحيحًا، لم يخذل صاحبه في الفيلم لأنه كان فيلمًا، لكنه يخذلنا في الحياة لأنها حياة.
ربما علينا ألّا نندم أبدًا ولا ندع خذلان الآخرين يُلهينا عن راحة ضميرنا وشجاعتنا حتى لو كانت لحظية.

(2)
عن الندم الذي شعر به حسين فهمي (شكري رئيس النيابة) في فيلم العار، عقب اكتشاف ضياع كل شيء، الندم الذي أعقبه قراره بالانتحار بالمسدس وسط الملاحات.
الندم الذي لا نملك غيره نتيجة قرار أحمق اتخذناه تحت تأثير حب أو طمع أو شهوة ما، الندم الذي لا نجد غيره حلًا، ندم قلة الحيلة أسوأ أنواع الندم.
انتحر شكري بعد أن ضحى بالوظيفة والسلطة ومن قبلها الشرف، انتحر لعدم وجود مقابل يرضيه، غيره قد ينتحر حتى لو وجد المقابل بدافع تأنيب الضمير أو على الأقل كان سيعيش عذابه الخاص الذي لا يجرؤ على البوح به، لا نملك أن نعتبر هذا أشرف من ذاك لكننا نعرف كم يتعذب كلاهما.
ندم قلة الحيلة ليس ندماً يحترم، ويختلف عن النوع الأول في أنه ابن قرار خاطئ، لكنه قد يكون الندم الأخير.

(3)
عن الندم الذي شعرت به شادية (الأم عائشة) في فيلم “لا تسألني من أنا” بعد أن كبرت ابنتها يسرا (زينب) واكتشفت الحقيقة.
ندم تسبّب فيه قرار يحتمل أن يكون صحيحًا أو خاطئًا، القرار الذي يتغير بتغير الزمن، القرار الذي نتخذه فيؤثر في الآخرين وربما يتحكم في مصائرهم مثل الفيلم، القرار الشخصي جداً الذي لا تؤثر فينا وحدنا نتائجه.
يبدو هذا الندم لأصحاب الضمير الحي هو الأسوأ على الإطلاق، لأن من تأذّوا بسببه؛ غالباً ما كانوا يخصوننا بطريقة أو بأخرى.
في الفيلم عادت زينب إلى والدتها وتلاشت النتائج المؤلمة، في الحقيقة لا تعود زينب ويضيع الآخر نتيجة هذا القرار، ولا نملك سوى ندماً لا يسمن ولا يغني من جوع.
ندم تبقى مرارته في نفوس الكل.. صاحب القرار ومَن خسر بسببه.
في الحقيقة كلنا خاسر.

(4)
عن الندم الذي شعر به رشدي أباظة (عبد الحميد) عن قرار الإبلاغ عن عمر الشريف (إبراهيم حمدي) الفار من البوليس السياسي في فيلم “في بيتنا رجل”.
الندم الذي عادة ما ينتج عن قرار تم اتخاذه في لحظة غضب، الندم النبيل الذي حوّل صاحبه إلى شخص آخر بعدما أعاد اكتشاف نفسه بسبب هذا الندم.
ندم نادر يشبه بقعة الضوء التي تكشف لنا الطريق وتعيدنا إلى أنفسنا، الذي قد نتضرر بسببه مرحلياً مثلما تضرر عبد الحميد في الفيلم وأُلقي به في السجن.
وكأنه يمارس تطهيرًا خاصًا قبل أن نستحق الجائزة وهي إصلاحنا الشخصي.
قليلون هم من يتمكنون من العبور من ندم مثل هذا بنجاح، عاد عبد الحميد واكتشف عيوبه وصار أفضل، لكن كم عبد الحميد في تلك الدنيا يمكن أن يعيده الندم إلى الطريق الصحيح؟!

(5)
عن الندم الذي شعر به أبطال فيلم ” سهر الليالي” جميعًا، فتحي عبد الوهاب (خالد) لخيانة زوجته منى زكي (بيري)، وحنان ترك (فرح) عن الإساءة إلى زوجها أحمد حلمي (عمرو) وإهانته، وجيهان فاضل (مشيرة) عن الإقدام على خيانة زوجها خالد أبو النجا (علي)، وشريف منير (سامح) عن رفضه الارتباط بحبيبته علا غانم (إيناس).
ندم لحظي يأتي من أجل تخدير الضمير ومصالحة المتضرر فقط، والذي يزول بانتهاء المشاكل، ويعاود صاحبه تكرار الأخطاء نفسها الناتجة عن قرارات أنانية للغاية لا يهتم فيها الشخص إلا بنفسه.
الندم الأكثر انتشارًا بين بني البشر، والذي يعاودون بعده تكرار الأخطاء بـ”العشم” الغريب نفسه؛ في ألّا يعاودهم الندم.
ندم تعبر به الروح قمة أزمتها التي لا تحتمل نتيجتها، ندم يشبه مخدراً يستنشقه الطرف الآخر سلبياً، ويتم تخديره بنسبة أكبر من صاحبه.
في الفيلم اكتفى تامر حبيب وهاني خليفة بالإشارة في المشهد الختامي إلى عودة كل بطل إلى ما ندم عليه تلميحًا رغبة منهما في أن تظل النهاية سعيدة، لكن الحياة قطعت وعدصا على نفسها في ألّا تكون النهاية سعيدة لأولئك الحمقى الذين يستخدمون الألم مخدرًا.

أسامة الشاذلي

روائي وكاتب وناقد مصري تخرج من الكلية الحربية عام 1994 وظل بالخدمة حتى استقالته في يناير 2005، ليتفرغ بعدها لدراسة النقد السينمائي والكتابة، قام الشاذلي بتأسيس مواقع إلكترونية متخصصة في المحتوى النوعي “دائم الخضرة” مثل “كسرة – المولد – الميزان” إضافة إلى المشاركة في تأسيس موقع السينما دوت كوم، وكتب مقالات في كثير من المؤسسات الصحفية، إضافة إلى إنتاجه الأدبي حيث كتب ٨ روايات ومجموعتين قصصيتين، ولأسامة الشاذلي تجربة في كتابة الشعر الغنائي إلى جانب تحريره وإعداده أعمال إذاعية وبرامج تلفزيونية، إضافة لإنتاج وصناعة أفلام وثائقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *